خير الدين التونسي: رائد الإصلاح

خير الدين التونسي: رائد الإصلاح ومهندس النهضة في العالم الإسلامي

يُعدّ خير الدين التونسي من الشخصيات الفارقة في التاريخ السياسي والفكري للعالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر، إذ اقترن اسمه بمرحلة دقيقة من تاريخ تونس خاصة، والعالم الإسلامي عامة، تميزت بظهور بوادر الانحدار أمام التحديات الأوروبية الكبرى، وصعود الدعوات إلى الإصلاح والتحديث. ولد في منطقة القفقاس لعائلة شركسية في بداية القرن التاسع عشر، وبيع في سوق العبيد ليصل إلى تونس، وهناك تبدأ رحلته في الصعود والتحول من عبد صغير إلى واحد من أبرز رواد النهضة الفكرية والإدارية.

كان خير الدين التونسي من القلائل الذين استطاعوا أن يُجسدوا مشروعاً فكرياً وسياسياً متكاملاً للإصلاح، مبنياً على استيعاب عناصر القوة الأوروبية دون المساس بثوابت الهوية الإسلامية. كانت مسيرته غنية بالدروس السياسية والفكرية، وقد ترك أثراً لا يُمحى من خلال كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، الذي يُعتبر مرجعاً فكرياً وسياسياً يعكس رؤيته للإصلاح.

النشأة والخلفية

وُلد خير الدين التونسي سنة 1820 تقريباً في منطقة القوقاز لأسرة شركسية، وفي ظروف الاضطرابات السياسية التي عرفتها تلك المنطقة، تم أسره وهو صغير، ونُقل إلى إسطنبول ثم إلى تونس، حيث بيع في سوق الرقيق. التحق في شبابه بالمؤسسة العسكرية التونسية، وأظهر ذكاءً فطرياً وانضباطاً متميزاً لفت انتباه الأمير التونسي أحمد باشا باي، الذي ألحقه بحاشيته، مما سمح له بتلقي تعليم عصري ومتابعة التجارب الإدارية والعسكرية الحديثة.

انخرط خير الدين في سلك الإدارة مبكراً، وتلقى تعليماً متقدماً على أيدي أساتذة بارزين في العلوم الشرعية واللغات الأجنبية، كما اطلع على تجارب الغرب السياسية والاجتماعية، وبدأ يدرك حجم الفجوة بين المجتمعات الإسلامية والدول الأوروبية الناهضة.

الحياة السياسية: من الوزارة إلى الإصلاح

عُيّن خير الدين وزيراً للبحر سنة 1857، ثم أصبح وزيراً أول (رئيساً للوزراء) سنة 1873 في حكومة محمد الصادق باي، وقاد خلالها جهوداً حثيثة لإصلاح الدولة التونسية من خلال إصلاحات شملت المالية، والتعليم، والقضاء، ومؤسسات الدولة.

من بين أبرز إنجازاته في تونس:

• إصلاح الجهاز المالي: سعى إلى تقليص العجز في ميزانية الدولة، ووقف نزيف الاقتراض الأجنبي، الذي كان يُهدد استقلال البلاد.

• دعم التعليم العصري: أسّس المدرسة الصادقية سنة 1875، والتي هدفت إلى تكوين نخبة تونسية متعلمة تجمع بين العلوم الحديثة والعلوم الشرعية.

• ترسيخ مبادئ الحكم الدستوري: دعم دستور 1861، وهو أول دستور في العالم الإسلامي، رغم ما شابه من عراقيل تطبيقية.

• محاربة الفساد الإداري: قام بعملية تطهير واسعة في الإدارات من العناصر الفاسدة، وواجه نفوذ البلاط المتغلغل في مفاصل الدولة.

غير أن مشروعه الإصلاحي اصطدم بالمصالح المتشابكة للأعيان والقوى الأجنبية التي رأت في مشروعه تهديداً لنفوذها، مما أدى إلى استقالته من منصبه سنة 1877، تحت ضغط فرنسي كبير.

الإسهامات الفكرية: “أقوم المسالك” ومشروع النهضة

ألّف خير الدين التونسي كتابه الأشهر “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” سنة 1867، وهو من أهم المؤلفات السياسية التي صدرت في القرن التاسع عشر في العالم العربي الإسلامي. يتناول فيه مسألة الإصلاح من منظور إسلامي مستنير يستفيد من تجارب الأمم الغربية، من دون أن يكون مقلداً أو تابعاً لها.

يتضمن الكتاب عرضاً دقيقاً للتجارب الأوروبية في التنظيم والإدارة والاقتصاد، ويدعو إلى الاستفادة منها بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. ويُعد الكتاب وثيقة تأسيسية لما يمكن تسميته “الإسلام الإصلاحي”، الذي يقبل الحداثة في إطار من المرجعية الإسلامية، ويرفض الجمود والانغلاق.

أبرز المحاور التي ناقشها في “أقوم المسالك”:

المشروع النهضوي: تحديث لا تغريب

تميز خير الدين التونسي بموقف فكري متوازن بين المحافظة والتحديث. لم يكن من دعاة الانبهار الأعمى بالنموذج الغربي، ولم يكن في الوقت نفسه من أنصار الجمود والرفض المطلق للتجديد. لقد فهم أن مكمن ضعف الأمة لا يكمن في تمسّكها بالدين، وإنما في جمود بعض النخب وفساد الإدارة وغياب الإصلاح الجاد.

انطلق مشروعه من قناعة راسخة بأن الإسلام في جوهره يدعو إلى العلم والعمل والتقدم، ولذلك يجب ألا يكون عائقاً أمام الحداثة، بل محفزاً لها. وبذلك، فقد سبق مفكرين لاحقين مثل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني في الدعوة إلى النهضة القائمة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

دوره في الدولة العثمانية

بعد خروجه من تونس، انتقل خير الدين إلى إسطنبول، حيث عيّنه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1878 صدراً أعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية). وعلى الرغم من قصر مدة توليه لهذا المنصب (أقل من عام)، إلا أنه حاول خلاله الدفع بمسيرة الإصلاح داخل السلطنة، مع التركيز على الجوانب الإدارية والمالية. إلا أن علاقته بالسلطان لم تكن سلسة، إذ كانت إصلاحاته تصطدم بتوجهات عبد الحميد الثاني، الذي بدأ يميل نحو الحكم الفردي.

قدم استقالته في السنة نفسها، واعتزل العمل السياسي بشكل شبه نهائي، لكنه ظل حاضراً في النقاش الفكري والإصلاحي من خلال اتصالاته ببعض رواد النهضة في المشرق.

السياق التاريخي والفكري لعصره

عاش خير الدين التونسي في مرحلة حرجة من تاريخ العالم الإسلامي، تميزت بتراجع الإمبراطوريات الإسلامية التقليدية، وصعود القوى الاستعمارية الأوروبية، مما ولّد شعوراً بالتهديد الوجودي. كان الفكر الإسلامي في ذلك العصر منقسماً بين تيارين رئيسيين:

1. التيار التقليدي المحافظ: الذي يرفض التحديث ويعتبره تغريباً.

2. التيار الحداثي التغريبي: الذي ينادي بتقليد النموذج الغربي دون ضوابط.

جاء خير الدين كصوت ثالث يتجاوز هذه الثنائية، مقدّماً نموذجاً إصلاحياً يقوم على الاستفادة من تجارب الأمم مع الحفاظ على ثوابت الأمة، وهو ما يجعله من أبرز مفكري الإسلام السياسي الإصلاحي في العصر الحديث.

إرثه وتأثيره في الحركات الإصلاحية

ترك خير الدين إرثاً سياسياً وفكرياً لا يقل أهمية عن إرث كبار مفكري الإصلاح في العالم الإسلامي. وقد تأثر بأفكاره عدد من المفكرين اللاحقين مثل محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان. كما أن كتابه “أقوم المسالك” كان مرجعاً مهماً في النقاشات الإصلاحية التي شهدها العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ويمكن تلخيص إسهاماته في النقاط التالية:

• التأسيس لفكر إصلاحي واقعي يربط بين مقومات الهوية الإسلامية ومتطلبات العصر.

• الدعوة إلى التعليم كأداة للتقدم والتحرر.

• الدفاع عن السيادة الوطنية في وجه التدخلات الأجنبية.

• تحديث الإدارة والاقتصاد بطريقة منهجية وفعالة.

• تقديم نموذج عملي للسياسي المفكر، الذي لا يكتفي بالتنظير، بل يسعى للتنفيذ والتغيير.

وفاته ومكانته التاريخية

توفي خير الدين التونسي في إسطنبول سنة 1890، بعد حياة حافلة بالإصلاحات والأفكار الجريئة. وقد نُقل جثمانه إلى تونس ودفن فيها، تخليداً لذكراه كأحد أبرز رجالاتها في التاريخ الحديث. لا تزال أفكاره حية في السجالات الفكرية والسياسية إلى يومنا هذا، خاصة في ظل استمرار النقاش حول العلاقة بين الإسلام والحداثة، ومسارات الإصلاح في العالم العربي.

المصادر

• خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق المنصف الشنوفي، الدار التونسية للنشر، 1972.

• عبد الجليل التميمي، خير الدين التونسي: فكره السياسي وأثره في العالم العربي والإسلامي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993.